الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ يَرْجُونَ نَصْرَهَا وَنَفْعَهَا عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فِي ضَعْفِ احْتِيَالِهِمْ، وَقُبْحِ رِوَايَاتِهِمْ، وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} فِي ضَعْفِهَا، وَقِلَّةِ احْتِيَالِهَا لِنَفْسِهَا، {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} لِنَفْسِهَا، كَيْمَا يُكِنُّهَا، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهَا شَيْئًا عِنْدَ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ أَمْرُ اللَّهِ، وَحَلَّ بِهِمْ سُخْطُهُ أَوْلِيَاؤُهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهَ بِهِمْ مِنْ سُخْطِهِ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: ذَلِكَ مِثْلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ، إِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْمُشْرِكِ مَثَلُ إِلَهِهِ الَّذِي يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَثَلِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَاهِنٌ ضَعِيفٌ لَا يَنْفَعُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، لَا يُغْنِي أَوْلِيَاؤُهُمْ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا لَا يُغْنِي الْعَنْكَبُوتَ بَيْتُهَا هَذَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} يَقُولُ: إِنَّ أَضْعَفَ الْبُيُوتِ {لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، يَعْلَمُونَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ فِي قِلَّةِ غَنَائِهِمْ عَنْهُمْ، كَغَنَاءِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ عَنْهَا، لَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، فَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَهُمْ وَيُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}. اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ (تَدْعُونَ) بِالتَّاءِ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ (إِنَّ اللَّهَ) أَيُّهَا النَّاسُ، (يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ). وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} بِالْيَاءِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْأُمَمِ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُوَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ خَبَرًا عَنِ الْأُمَمِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ، لَكَانَ الْكَلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا كَانُوا يَدْعُونَ، لِأَنَّ الْقَوْمَ فِي حَالِ نُُزُولِ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ، إِذْ كَانُوا قَدْ هَلَكُوا فَبَادُوا، وَإِنَّمَا يُقَالُ: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ) إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ مَوْجُودِينَ، لَا عَمَّنْ قَدْ هَلَكَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْنَا: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) أَيُّهَا الْقَوْمُ، حَالَ مَا تَعْبُدُونَ {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُكُمْ وَلَا يَضُرُّكُمْ، إِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ سُوءًا، وَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنَّ مِثْلَهُ فِي قِلَّةِ غِنَائِهِ عَنْكُمْ، مَثَلُ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي غِنَائِهِ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يَقُولُ: وَاللَّهُ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ وَأَشْرَكَ فِي عِبَادَتِهِ مَعَهُ غَيْرَهُ فَاتَّقُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِهِ عِقَابَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ قَبِلَ نُزُولِهِ بِكُمْ، كَمَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ نَزَلَ بِكُمْ عِقَابُهُ لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أَوْلِيَاؤُكُمُ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، كَمَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَنْ قَبِلَكُمْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ مَنْ دُونِهِ، "الْحَكِيم" فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ فَمُهْلِكُ مَنِ اسْتَوْجَبَ الْهَلَاكَ فِي الْحَالِ الَّتِي هَلَاكُهُ صَلَاحٌ، وَالْمُؤَخَّرُ مَنْ أَخَّرَ هَلَاكَهُ مِنْ كَفَرَةِ خَلْقِهِ بِهِ إِلَى الْحِينِ الَّذِي فِي هَلَاكِهِ الصَّلَاحُ. وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَذِهِ الْأَمْثَالُ، وَهِيَ الْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} يَقُولُ: نُمَثِّلُهَا وَنُشَبِّهُهَا وَنَحْتَجُّ بِهَا لِلنَّاسِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: هَـلْ تَذْكُـرُ العَهْـدَ مِـنْ تَنَمَّـصَ إِذْ *** تَضْرِبُ لِي قـاعِدًا بِهَا مَثَلَا {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا يَعْقِلُ أَنَّهُ أُصِيبَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ مِنْهُمُ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ فِيمَا ضَرَبْتُ لَهُ مَثَلًا (إِلَّا الْعَالِمُونَ) بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَلَقَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ، السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا بِخَلْقِهَا، لَا يُشْرِكُهُ فِي خَلْقِهَا شَرِيكٌ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) يَقُولُ: إِنَّ فِي خَلْقِهِ ذَلِكَ لِحُجَّةً لِمَنْ صَدَّقَ بِالْحُجَجِ إِذَا عَايَنَهَا، وَالْآيَاتِ إِذَا رَآهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اتْلُ) يَعْنِي: اقْرَأْ {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يَعْنِي: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} يَعْنِي: وَأَدِّ الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ بِحُدُودِهَا {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الصَّلَاةِالَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا الْقُرْآنَ الَّذِي يُقْرَأُ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانَ، عَنِ أَبِي الْوَفَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قَالَ: الْقُرْآنُ الَّذِي يُقْرَأُ فِي الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهَا الصَّلَاةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} يَقُولُ: فِي الصَّلَاةِ مُنْتَهَى وَمُزْدَجَرٌ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} مِنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِصَلَاتِهِ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا خَالِدٌ، قَالَ: قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: إِنْ فَلَانًا كَثِيرُ الصَّلَاةِ، قَالَ: فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ إِلَّا مَنْ أَطَاعَهَا. قَالَ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: مَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ صَلَاتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، عَنْ جُوَيبرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعِ الصَّلَاةَ، وَطَاعَةُ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر» " قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} قَالَ: فَقَالَ سُفْيَانُ: إِيْ وَاللَّهِ، تَأْمُرُهُ وَتَنْهَاهُ. قَالَ عَلَيٌّ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ تَنْهَهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الصَّلَاةُ إِذَا لَمَّ تَنْهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، قَالَ: مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ، قَالَا مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ إِلَّا بُعْدًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ تَنْهَى الصَّلَاةُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْنِيًّا بِهَا مَا يُتْلَى فِيهَا؟ قِيلَ: تَنْهَى مَنْ كَانَ فِيهَا، فَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ، لِأَنَّ شَغْلَهُ بِهَا يَقْطَعُهُ عَنِ الشَّغْلِ بِالْمُنْكِرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ لَمْ يُطِعْ صِلَاتَهُ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا. وَذَلِكَ أَنَّ طَاعَتَهُ لَهَا إِقَامَتُهُ إِيَّاهَا بِحُدُودِهَا، وَفِي طَاعَتِهِ لَهَا مُزْدَجَرٌ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. حَدَّثَنَا أَبُو حَمِيدٍ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: ثَنَا أَرْطَاةُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} قَالَ: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ، فَأَنْتِ فِي مَعْرُوفٍ، وَقَدْ حَجَزَتْكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، و (الْفَحْشَاءُ): هُوَ الزِّنَا، و (الْمُنْكَرُ): مَعَاصِي اللَهِ، وَمَنْ أَتَى فَاحِشَةً أَوْ عَصَى اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَلِذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلًا عَجَبًا وَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ، إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ (أَكْبَرُ) مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ ابْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبُرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: سَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَقُلْتُ: ذِكْرُهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ، وَذِكْرُهُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ فَيَحْتَجِزُ عَنْهَا. فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتَ قَوْلًا عَجِيبًا وَمَا هُوَ كَمَا قَلْتَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: ثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى وَقَالَ ابْنُ وَكِيعٍ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ، قَالَ: ذَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ، قَالَ رَجُلٌ: إِنِّي تَرَكْتُ رَجُلًا فِي رَحْلِي يَقُولُ غَيْرَ هَذَا، قَالَ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعِبَادَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعِبَادِ إِيَّاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ وَاللَّهِ صَاحِبُكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: ثَنَا فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: هُوَ قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ} لِعِبَادِهِ إِذَا ذَكَرُوهُ (أَكْبَرُ) مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَبْدَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ أَبِي قُرَّةَ، عَنْ سَلْمَانَ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي عَرِيبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَحَبِّهَا إِلَى مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ مِنْ أَنْ تَغْزُوَا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَخَيْرٍ مِنْ إِعْطَاءِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ؟ قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: ذِكْرُكُمْ رَبَّكُمْ، وَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ أَبِي قُرَّةَ، عَنْ سَلْمَانَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا قُرَّةَ، عَنْ قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ قَالَا ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ: ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. قَالَ: ثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ. قَالَ: ثَنَا أَبُو يَزِيدَ الرَّازِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَذِكْرِكُمُ اللَّهَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الْعَيْزَارُ بْنُ حُرَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}: لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: ثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْأُمِّ الدَّرْدَاءِ، أَنَّهَا قَالَتْ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَإِنْ صَلَّيْتَ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنْ صُمْتَ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَرٍّ تَجْتَنِبُهُ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ تَسْبِيحُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: لَا شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ: أَكْبَرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَقَرَأَ (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) قَالَ: لِذِكْرِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَصِفْهُ عِنْدَ الْقِتَالِ إِلَّا أَنَّهُ أَكْبَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِسَلْمَانَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ،؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، يَعْنُونَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَالثَّانِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: لَهَا وَجْهَانِ: ذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِمَّا سِوَاهُ، وَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: لَهَا وَجْهَانِ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا حُرِّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: لَذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا عُبَِيْدِ اللَّهِ، عَنِ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ أَبِي مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي الصَّلَاةِ، أَكْبَرُ مِنَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلَلصَّلَاةُ الَّتِي أَتَيْتَ أَنْتَ بِهَا، وَذِكْرُكَ اللَّهَ فِيهَا، أَكْبَرُ مِمَّا نَهَتْكَ الصَّلَاةُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرُ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارِ، قَالَ: ثَنَا أَرْطَاةُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وَالَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَكْبَرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَفْْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ أَيُّهَا النَّاسُ فِي صَلَاتِكُمْ، مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِهَا، وَتَرْكِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِنْ أُمُورِكُمْ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ، يَقُولُ: فَاتَّقُوا أَنْ تُضَيِّعُوا شَيْئًا مِنْ حُدُودِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَلَا تُجَادِلُوا) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ {أَهْلُ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يَقُولُ: إِلَّا بِالْجَمِيلِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ بِآيَاتِهِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى حُجَجِهِ. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِلَّا الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا لَكُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، وَنَصَبُوا دُونَ ذَلِكَ لَكُمْ حَرْبًا، فَإِنَّهُمْ ظُلْمَةٌ، فَأُولَئِكَ جَادِلُوهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ: مِنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُعْطِ الْجِزْيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَاتَلَكَ وَلَمْ يُعْطِكَ الْجِزْيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ: إِنْ قَالُوا شَرًّا؛ فَقُولُوا خَيْرًا، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فَانْتَصَرُوا مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ: قَالُوا: مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ، أَوْ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ لَهُ شَرِيكٌ، أَوْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، أَوِ اللَّهُ فَقِيرٌ، أَوْ آذَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ: أَهْلُ الْحَرْبُ، مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ جَادَلَهُ بِالسَّيْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} الَّذِينَ قَدْ آمَنُوا بِهِ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ فِيمَا أَخْبَرُوكُمْ عَنْهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فَأَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ، وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قَالَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَادِلَ مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، لَعَلَّهُمْ يُحْسِنُونَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ فَلَا تُجَادِلْهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَادِلَ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا، الْمُقِيمَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ. فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُجَادَلُ، وَيُقَالُ لَهُ بِالسَّيْفِ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ يَهُودٌ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بِدَارِ الْهِجْرَةِ مِنَ النَّصَارَى أَحَدٌ، إِنَّمَا كَانُوا يَهُودًا هُمُ الَّذِي كَلَّمُوا وَحَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَدَرَتِ النَّضِيرُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَغَدَرَتْ قُرَيْظَةُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ، وَقَالُوا: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأُمِرَ بِقِتَالِهِمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَلَا مُجَادَلَةَ أَشَدُّ مِنَ السَّيْفِ، أَنْ يُقَاتِلُوا حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يُقِرُّوا بِالْخَرَاجِ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالُ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَي بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}: إِلَّا الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَنَصَبُوا دُونَهَا الْحَرْبَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوْ غَيْرُ ظَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤَدِّ الْجِزْيَةَ قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظَلَمَةٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. ظُلْمَ أَنْفُسِهِمْ. وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ جَادَلُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِيهِ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَذِنَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِجِدَالِ ظَلَمَةِ أَهْلِ الْكِتَابِِ، بِغَيْرِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فَمَعْلُومٌ إِذْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُمْ فِي جِدَالِهِمْ، أَنَّ الَّذِينَ لَمَّ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي جِدَالِهِمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، غَيْرُ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْهُمْ غَيْرُ جَائِزٍ جِدَالُهُ إِلَّا فِي غَيْرِ الْحَقِّ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَقَدْ صَارَ فِي مَعْنَى الظَّلَمَةِ فِي الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، تَبَيَّنَ أَلَّا مَعْنًى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ بِذَلِكَ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ فِطْرَةِ عَقْلٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، مِنْ خَبَرٍ أَوْ عَقْلٍ. وَقَوْلُهُ: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، الَّذِينَ نَهَاهُمْ أَنْ يُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَأَخْبَرُوكُمْ عَنْهَا بِمَا يُمْكِنُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ صَادِقِينَ، وَأَنْ يَكُونُوا فِيهِ كَاذِبِينَ، وَلَمْ تَعْلَمُوا أَمْرَهُمْ وَحَالَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقُولُوا لَهُمْ (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ {) مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، (} وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ {) يَقُولُ: وَمَعْبُودُنَا وَمَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ (} وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) يَقُولُ: وَنَحْنُ لَهُ خَاضِعُونَ مُتَذَلِّلُونَ بِالطَّاعَةِ فِيمَا أَمَرَنَا وَنَهَانَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلَيٌّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، فَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوُهُمْ، (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ يُحَدِّثُونَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ". قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظَهِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. قَالَ: قَالُوا: مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ، أَوْ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ لَهُ شَرِيكٌ، أَوْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، أَوِ اللَّهُ فَقِيرٌ، أَوْ آذَوْا مُحَمَّدًا، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} لِمَنْ لَمْ يَقِلْ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا أنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ {كَذَلِكَ أنْزَلْنَا إِلَيْكَ} هَذَا {الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} مِنْ قَبْلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَقُولُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكَ الْيَوْمَ، مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمَنْ آمَنَ بِرَسُولِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا يَجْحَدُ بِأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا إِلَّا الَّذِي يَجْحَدُ نَعِمَنَا عَلَيْهِ، وَيُنْكِرُ تَوْحِيدَنَا وَرُبُوبِيَّتِنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ عِنَادًا لَنَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} قَالَ: إِنَّمَا يَكُونُ الْجُحُودُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَمَا كُنْتَ) يَا مُحَمَّدُ (تَتْلُوا) يَعْنِي: تَقْرَأُ (مِنْ قَبْلِهِ) يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ {مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} يَقُولُ: وَلَمْ تَكُنْ تَكْتُبُ بِيَمِينِكَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ أُمِّيًّا {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ تَقْرَأُ الْكِتَابَ، أَوْ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، (إذًا لَارْتَابَ) يَقُولُ: إِذَنْ لَشَكَّ-بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَمْرِكَ، وَمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْهِمُ- الْمُبْطِلُونَ الْقَائِلُونَ إِنَّهُ سَجْعٌ وَكِهَانَةٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا؛ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا وَلَا يَكْتُبُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا قَبْلَهُ، وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ، قَالَ: كَانَ أُمِّيًّا، وَالْأُمِّيُّ: الَّذِي لَا يَكْتُبُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخُطُّ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَقْرَأُ كِتَابًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} قَالُوا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} إِذْن لَقَالُوا: إِنَّمَا هَذَا شَيْءٌ تَعَلَّمَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} قَالَ: قُرَيْشٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِىِّ بِقَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: بَلْ وُجُودُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَأَنَّهُ أُمِّيٌّ، آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} قَالَ: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَّمَهُ لَهُمْ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ آيَةً، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ نُبُوَّتِهِ أَنْ يَخْرُجَ حِينَ يَخْرُجُ لَا يَعْلَمُ كِتَابًا، وَلَا يَخُطُّهُ بِيَمِينِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، أَنَّهُ نَبِيٌّ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَهِيَ الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَنَعْتِهِ وَنُبُوَّتِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ شَأْنَ مُحَمَّدٍ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ، يَقُولُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْقُرْآنَ، وَقَالُوا: مَعْنَى الْكَلَامِ: بَلْ هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ، فِي قَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: بَلِ الْعِلْمُ بِأَنَّكَ مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابًا، وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعَلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} بَيَّنَ خِبْرَيْنِ مِنْ أَخْبَارِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ، أُولَى مِنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي قَدِ انْقَضَى الْخَبَرُ عَنْهُ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا يَجْحَدُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدِلَّتَهُ، وَيُنْكِرُ الْعِلْمَ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ، بِبَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ وَمَبْعَثِهِ إِلَّا الظَّالِمُونَ، يَعْنِي: الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَتِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، تَكُونُ حُجَّةً لِلَّهِ عَلَيْنَا، كَمَا جُعِلَتِ النَّاقَةُ لِصَالِحٍ، وَالْمَائِدَةُ آيَةٌ لِعِيسَى، قُلْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا غَيْرُهُ {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ، أُنْذِرُكُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَعِقَابِهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِرَسُولِهِ. وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ (مُبِينٌ) يَقُولُ: قَدْ أَبَانَ لَكُمْ إِنْذَارَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يَكْفِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، مِنَ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ} هَذَا {الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً} يَقُولُ: إِنَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ لِرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَذِكْرَى يَتَذَكَّرُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَسَخُوا شَيْئًا مِنْ بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُتُبٍ، قَدْ كَتَبُوا فِيهَا بَعْضَ مَا يَقُولُ الْيَهُودُ، فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ فِيهَا أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَالَ: "كَفَى بِهَا حَمَاقَةُ قَوْمٍ-أَوْ ضَلَالَةُ قَوْمٍ- أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُ نَبِيِّهِمْ، إِلَى قَوْمٍ غَيْرِهِمْ "، فَنَزَلَتْ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِلْقَائِلِينَ لَكَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْكِ آيَةٌ مِنْ رَبِّكَ، الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِنَا مَنْ قَوْمَكَ: كَفَى اللَّهُ يَا هَؤُلَاءِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، شَاهِدًا لِي وَعَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنَّا مِنَ الْمُبْطِلِ، وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِمَا، وَهُوَ الْمُجَازِي كُلَّ فَرِيقٍ مِنَّا بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، الْمُحِقَّ عَلَى ثَبَاتِهِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْمُبْطِلَ عَلَى بَاطِلِهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} يَقُولُ: صَدَّقُوا بِالشِّرْكِ، فَأَقَرُّوا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ، يَقُولُ: وَجَحَدُوا اللَّهَ {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يَقُولُ: هُمُ الْمَغْبُونُونَ فِي صَفْقَتِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ}: الشِّرْكُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَسْتَعْجِلُكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ مِنْ قَوْمِكَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ بِالْعَذَابِ وَيَقُولُونَ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَلَوْلَا أَجْلٌ سَمَّيْتُهُ لَهُمْ فَلَا أُهْلِكُهُمْ حَتَّى يَسْتَوْفُوهُ وَيَبْلُغُوهُ، لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا. وَقَوْلُهُ: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ: وَلَيَأْتِيَنَّهُمُ الْعَذَابُ فَجْأَةً، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ مَجِيئِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} قَالَ: قَالَ نَاسٌ مِنْ جَهَلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَسْتَعْجِلُكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِمَجِيءِ الْعَذَابِ ونُزُولِهِ بِهِمْ، وَالنَّارُ بِهِمْ مُحِيطَةٌ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَدْخُلُوهَا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْبَحْرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} قَالَ: الْبَحْرُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَثَلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} يَوْمَ يَغْشَى الْكَافِرِينَ الْعَذَابُ، مِنْ فَوْقِهِمْ فِي جَهَنَّمَ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: أَيْ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَمَا يُسْخِطُهُ فِيهَا. وَبِالْيَاءِ فِي {وَيَقُولُ ذُوقُوا} قَرَأَتْ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ خَلَا أَبِي جَعْفَرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، فَإِنَّهُمَا قَرَآ ذَلِكَ بِالنُّونِ: (وَنَقُولُ). وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا بِالْيَاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ وَحَّدُونِي، وَآمَنُوا بِي وَبِرَسُولِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ سِعَةِ الْأَرْضِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَضِقْ عَلَيْكُمْ فَتُقِيمُوا بِمَوْضِعٍ مِنْهَا لَا يَحِلُّ لَكُمُ الْمُقَامَ فِيهِ، وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ بِمَكَانٍ مِنْهَا بِمَعَاصِي اللَّهِ، فَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى تَغْيِيرِهِ، فَاهْرُبُوا مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} قَالَ: إِذَا عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، فَاخْرُجْ مِنْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَن إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبيرٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} قَالَ: إِذَا عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، فَاخْرُجْ مِنْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ قَالَ: اهْرُبُوا؛ فَإِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِذَا أُمِرْتُمْ بِالْمَعَاصِي فَاهْرُبُوا، فَإِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَطَاءٍ {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} قَالَ: مُجَانِبَةٌ أَهْلَ الْمَعَاصِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}، فَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} فَقُلْتُ: يُرِيدُ بِهَذَا مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ مَا أُخْرِجَ مِنْ أَرْضِي لَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَاسْعٌ لَكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: ثَنِي زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ أَبِي طَلْحَةَ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ الْمِعْوَلِيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ الْعَامِرِيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}: قَالَ: إِنَّ رِزْقِي لَكُمْ وَاسِعٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٌ، عَنْ شَدَّادٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} قَالَ: رِزْقِي لَكُمْ وَاسِعٌ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ، فَاهْرُبُوا مِمَّنْ مَنَعَكُمْ مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِي؛ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أُظْهِرُ مَعْنَيَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا وَصَفَهَا بِسِعَةٍ، فَالْغَالِبُ مِنْ وَصْفِهِ إِيَّاهَا بِذَلِكَ لَا تُضَيَّقُ جَمِيعُهَا عَلَى مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْضِعٌ، لَا أَنَّهُ وَصَّفَهَا بِكَثْرَةِ الْخَيْرِ وَالْخِصْبِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} يَقُولُ: فَأَخْلِصُوا لِي عِبَادَتَكُمْ وَطَاعَتَكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا فِي مَعْصِيَتِي أَحَدًا مِنْ خَلْقِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ: هَاجِرُوا مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ، فَاصْبِرُوا عَلَى عِبَادَتِي، وَأَخْلِصُوا طَاعَتِي، فَإِنَّكُمْ مَيِّتُونَ وَصَائِرُونَ إِلَيَّ؛ لِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ حَيَّةٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِلَيْنَا بَعْدَ الْمَوْتِ تُرَدُّونَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا أَعَدَّ لِلصَّابِرِينَ مِنْهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ عِنْدَهُ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}، يَعْنِي: صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يَقُولُ: وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} يَقُولُ: لَنُنَزِّلَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَالِيَّ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بِالْبَاء، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالثَّاءِ (لَنَثْوِيَنَّهُمْ). وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: (لَنُبِّوِّئَّنُهْم) مِنْ بَوَّأْتُهُ مَنْزِلًا أَيْ أَنْزَلْتُهُ، وَكَذَلِكَ لَنَثْوِيَنَّهُمْ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَثْوَيْتُهُ مَسْكَنًا، إِذَا أَنْزَلْتُهُ مَنْزِلًا مِنَ الثَّوَاءِ، وَهُوَ الْمَقَامُ. وَقَوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَقُولُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ (خَالِدِينَ فِيهَا) يَقُولُ: مَاكِثِينَ فِيهَا إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} يَقُولُ: نِعْمَ جَزَاءُ الْعَامِلِينَ بِطَاعَةِ اللَّهِ هَذِهِ الْغُرَفُ الَّتِي يُثْوِيهُمُوهَا اللَّهُ فِي جَنَّاتِهِِ، تُجْرَى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يُرْضِيهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فِي أَرْزَاقِهِمْ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِمْ، فَلَا يَنْكُلُونَ عَنْهُمْ، ثِقَةً مِنْهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مُعْلِي كَلِمَتِهِ، وَمُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، وَأَنَّ مَا قُسِمَ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ فَلَنْ يَفُوتَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَاجِرُوا وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَعْدَاءَهُ، وَلَا تَخَافُوا عَيْلَةً وَلَا إِقْتَارًا، فَكَمْ مِنْ دَابَّةٍ ذَاتِ حَاجَةٍ إِلَى غِذَاءٍ وَمَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ {لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا}، يَعْنِي: غِذَاءَهَا لَا تَحْمِلُهُ، فَتَرْفَعُهُ فِي يَوْمِهَا لِغَدِهَا لِعَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} يَوْمًا بِيَوْمٍ (وَهُوَ السَّمِيعُ) لِأَقْوَالِكُمْ: نَخْشَى بِفِرَاقِنَا أَوْطَانَنَا الْعَيْلَةَ (الْعَلِيمُ) مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، وَمَا إِلَيْهِ صَائِرٌ أَمْرُكُمْ، وَأَمْرُ عَدُوِّكُمْ، مِنْ إِذْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَنُصْرَتِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِكُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ} قَالَ: الطَّيْرُ وَالْبَهَائِمُ لَا تَحْمِلُ الرِّزْقَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} قَالَ: مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّخِرَ لِغَدٍ، يُوَفَّقُ لِرِزْقِهِ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَمُوتَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} قَالَ: لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَئِنْ سَأَلَتْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَسَوَّاهُنَّ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِعِبَادِهِ، يَجْرِيَانِ دَائِبَيْنِ لِمَصَالِحِ خَلْقِ اللَّهِ، لِيَقُولُنَّ: الَّذِي خَلَقَ ذَلِكَ وَفَعَلَهُ اللَّهُ. (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَنَّى يُصْرَفُونَ عَمَّنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَيَعْدِلُونَ عَنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ): أَيْ يَعْدِلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ يُوَسِّعُ مَنْ رِزْقِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ، وَيُضَيِّقُ فَيُقَتِّرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ، يَقُولُ: فَأَرْزَاقُكُمْ وَقِسْمَتُهَا بَيْنَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِيَدِي دُونَ كُلِّ أَحَدٍ سِوَايَ، أَبْسِطُ لِمَنْ شِئْتُ مِنْهَا، وَأُقَتِّرُ عَلَى مَنْ شِئْتُ، فَلَا يُخَلِّفَنَّكُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ وَجِهَادِ عَدُوِّكُمْ خَوْفُ الْعَيْلَةِ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ إِلَّا التَّقْتِيرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مَنْ قَوْمِكَ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُنْزِّلُهُ اللَّهُ مِنَ السَّحَابِ {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} يَقُولُ: فَأَحْيَا بِالْمَاءِ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ الْأَرْضَ، وَإِحْيَاؤُهَا: إِنْبَاتُهُ النَّبَاتَ فِيهَا {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} مِنْ بَعْدِ جَدُوبِهَا وَقُحُوطِهَا. وَقَوْلُهُ: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} يَقُولُ: لَيَقُولُنَّ: الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ. وَقَوْلُهُ: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} يَقُولُ: وَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ، فَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} يَقُولُ: بَلْ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ لَا يَعْقِلُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ النَّفْعُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، وَمَا فِيهِ الضُّرُّ، فَهُمْ لِجَهْلِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لِعِبَادَتِهِمُ الْآلِهَةَ دُونَ اللَّهِ يَنَالُونَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَةً وَقُرْبَةً، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ هَالِكُونَ، مُسْتَوْجِبُونَ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} الَّتِي يَتَمَتَّعُ مِنْهَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} يَقُولُ: إِلَّا تَعْلِيلُ النُّفُوسِ بِمَا تَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ هُوَ مُنْقَضٍ عَنْ قَرِيبٍ، لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا دَوَامَ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} يَقُولُ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَفِيهَا الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا وَلَا انْقِطَاعَ وَلَا مَوْتَ مَعَهَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} حَيَاةً لَا مَوْتَ فِيهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَا ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} قَالَ: لَا مَوْتَ فِيهَا. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} يَقُولُ: بَاقِيَةٌ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَقَصَّرُوا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِاللَّهِ، وَإِشْرَاكِهِمْ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا رَكِبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ السَّفِينَةَ فِي الْبَحْرِ، فَخَافُوا الْغَرَقَ وَالْهَلَاكَ فِيهِ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يَقُولُ: أَخْلَصُوا لِلَّهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمُ التَّوْحِيدَ، وَأَفْرَدُوا لَهُ الطَّاعَةَ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْعُبُودَةِ، وَلَمْ يَسْتَغِيثُوا بِآلِهَتِهِمْ وَأَنْدَادِهِمْ، وَلَكِنْ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} يَقُولُ: فَلَمَّا خَلَّصَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ وَسَلَّمَهُمْ، فَصَارُوا إِلَى الْبَرِّ، إِذَا هُمْ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِمْ، وَيَدْعُونَ الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ مَعَهُ أَرْبَابًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ يُقِرُّونَ لِلَّهِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا نَجَّى اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ فِي الْبَحْرِ، مِنَ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْغَرَقِ إِلَى الْبِرِّ، إِذَا هُمْ بَعْدَ أَنْ صَارُوا إِلَى الْبِرِّ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ. {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} يَقُولُ: لِيَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (وَلِيَتَمَتَّعُوا) اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (وَلِيَتَمَتَّعُوا) بِكَسْرِ اللَّامِ، بِمَعْنَى: وَكَيْ يَتَمَتَّعُوا آتَيْنَاهُمْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: (وَلْيَتَمَتَّعُوا) بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ وَالتَّوْبِيخِ: أَيِ اكْفُرُوا فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَاذَا يَلْقَوْنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بِهِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِسُكُونِ اللَّامِ، عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوهُ بِكَسْرِ اللَّامِ، زَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتَارُوا كَسْرَهَا عَطْفًا بِهَا عَلَى اللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (لِيَكْفُرُوا)، وَأَنَّ قَوْلَهُ: (لِيَكْفُرُوا) لِمَّا كَانَ مَعْنَاهُ: كَيْ يَكْفُرُوا، كَانَ الصَّوَابُ فِي قَوْلِهِ: (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أَنْ يَكُونَ: وَكَيْ يَتَمَتَّعُوا، إِذْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (لِيَكْفُرُوا) عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ الَّذِي ذَهَبُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَذْهَبٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَامَ قَوْلِهِ: (لِيَكْفُرُوا) صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى كَيْ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ، لِقَوْلِهِ: إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ كَيْ يَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لِأَنَّ إِشْرَاكَهُمْ بِاللَّهِ كَانَ كُفْرًا بِنِعْمَتِهِ، وَلَيْسَ إِشْرَاكُهُمْ بِهِ تَمَتُّعًا بِالدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ الْإِشْرَاكُ بِهِ يُسَهِّلُ لَهُمْ سَبِيلَ التَّمَتُّعِ بِهَا، فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَوْجِيهُهُ إِلَى مَعْنَى الْوَعِيدِ أُولَى وَأَحَقُّ مِنْ تَوْجِيهِهِ إِلَى مَعْنَى: وَكَيْ يَتَمَتَّعُوا، وَبَعْدُ فَقْدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ (وَتَمَتَّعُوا) وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَنْ قَرَأَهُ بِسُكُونِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ. وَقَوْلُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُذَكِّرًا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمُ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا دُونَ سَائِرِ النَّاسِِ غَيْرِهِمْ، مَعَ كُفْرِهِمْ بِنِعْمَتِهِ وَإِشْرَاكِهِمْ فِي عِبَادَتِهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ: أَوَلَمَ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا خَصَصْنَاهُمْ بِهِ مِنْ نِعْمَتِنَا عَلَيْهِمْ، دُونَ سَائِرِ عِبَادِنَا، فَيَشْكُرُونَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَنْزَجِرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِنَا، وَإِشْرَاكِهِمْ مَا لَا يَنْفَعُنَا، وَلَا يَضُرُّهُمْ فِي عِبَادَتِنَا أَنَّا جَعَلْنَا بَلَدَهُمْ حَرَمًا، حَرَّمْنَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَدْخُلُوهُ بِغَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ، آمِنًا يَأْمَنُ فِيهِ مِنْ سَكَنِهِ، فَأَوَى إِلَيْهِ مِنَ السِّبَاءِ، وَالْخَوْفِ، وَالْحَرَامِ الَّذِي لَا يَأْمَنُهُ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ، {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} يَقُولُ: وَتُسْلَبُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ قَتْلًا وَسِبَاءً. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} قَالَ: كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ آيَةً، أَنَّ النَّاسَ يُغزَوْنَ وَيُتَخَطَّفُونَ وَهُمْ آمِنُونَ. وَقَوْلُهُ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: أَفَبِالشِّرْكِ بِاللَّهِ يُقِرُّونَ بِأُلُوهَةِ الْأَوْثَانِ بِأَنْ يُصَدِّقُوا، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا مِنْ أَنْ جَعْلَ بَلَدَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يَكْفُرُونَ، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (يَكْفُرُونَ): يَجْحَدُونَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}: أَيْ بِالشِّرْكِ {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}: أَيْ يَجْحَدُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ أَظْلِمُ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّنِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، فَقَالُوا إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا، وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} يَقُولُ: أَوْ كَذَّبَ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ لِمَّا جَاءَهُ هَذَا الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} يَقُولُ: أَلَيْسَ فِي النَّارِ مَثْوًى وَمَسْكَنٌ لِمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَجَحَدَ تَوْحِيدَهُ وَكَذَّبَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ جَرِيرٍ: أَلَسْـتُمْ خَـيْرَ مَـنْ رَكِـبَ المَطَايَا *** وأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مَسْكَنًا فِي النَّارِ، وَمَنْزِلًا يَثْوُونَ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ قَاتَلُوا هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، الْمُكَذِّبِينَ بِالْحَقِّ لِمَا جَاءَهُمْ فِينَا، مُبْتَغِينَ بِقِتَالِهِمْ عُلُوَّ كَلِمَتِنَا، وَنُصْرَةَ دِينِنَا {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} يَقُولُ: لَنُوَفِّقَنَّهُمْ لِإِصَابَةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَذَلِكَ إِصَابَةُ دِينِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} يَقُولُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ مَنْ أَحْسَنَ مِنْ خَلْقِهِ، فَجَاهَدَ فِيهِ أَهْلَ الشِّرْكِ، مُصَدِّقًا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْعَوْنِ لَهُ، وَالنُّصْرَةِ عَلَى مَنْ جَاهَدَ مِنْ أَعْدَائِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} فَقُلْتُ لَهُ: قَاتَلُوا فِينَا، قَالَ: نَعَمْ. آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ
|